تقديم
في أواخر القرن العشرين أشرف الروائي الشاعر الأمريكي الشهير جون أبدايك John Updike على إعداد مجلد ضخم يحمل عنوان (أحسن القصص الأمريكية في القرن العشرين) صدر عام 1999 ويشتمل على خمس وخمسين قصة قصيرة مختارة من الانتاج القصصي الأمريكي في الفترة الواقعة بين عامي 1915 و1998 وتقع في 775 صفحة.
ومعروف أن القصة القصيرة هي أكثر الأجناس الأدبية انتشارا وشعبية في الولايات المتحدة الأمريكية، فهناك عشرات المجلات المتخصصة فيها ومئات الصحف التي تفرد زاوية خاصة بها، وثمة آلاف القصص التي تنشر سنويا ويتقاضى أصحابها مقابلا عنها من الدوريات التي تتهافت عليها، وتخصص لأصحابها مئات الجوائز السنوية.
ويعزى الإقبال على كتابة القصة القصيرة إلى أن الكثيرين من هواة الأدب يقدمون على ذلك ظنا منهم أن القصة القصيرة سهلة لقصرها، وأن معظم الأدباء المحترفين يبدؤون بالقصة القصيرة تمهيدا لإنتاج الرواية، وأن جمهورها أوسع من جمهور الشعر الذي يتطلب ذائقية خاصة وأوسع من جمهور الرواية التي تتطلب قراءتها وقتا أطول ليس متاحا لجميع الناس في عصر السرعة.
ولعل القارئ يتساءل عن الطريقة التي مكّنت جون أبدايك من انتقاء تلك القصص المختارة من ذلك الكم الهائل من القصص التي يربو عددها على الآلاف. كما يتساءل عن المعايير التي اعتمدها في عملية الاختيار ليكون كتابه مرجعا أكاديميا في الموضوع.
لقد استعان جون أبدايك بسلسلة تصدر سنويا بعنوان (أحسن القصص الأمريكية عام ــ) كان قد أسسها الشاعر المسرحي أدورد أوبراين عام 1915 بعد تخرجه من جامعة هارفرد وعمره لم يتجاوز اثنتين وعشرين سنة حينذاك. وأخذ أبدايك يختار قصة واحدة من كل كتاب سنوي من كتب هذه السلسلة، واضعا نصب عينيه بعض المعايير أهمها أن تعكس القصص المختارة روح القرن العشرين عقدا عقدا، وأن تعبّر عن الواقع الأمريكي ببيئته وثقافته وشخوصه وقضاياه.
ومن أهم قضايا المجتمع الأمريكي التي تجسدت في نتاج أدبائه الهجرة إلى العالم الجديد ومعاناتها النفسية والاجتماعية، والحروب وويلاتها وآثارها المدمرة خاصة أن الولايات المتحدة عاشت حروبا متواصلة في القرن العشرين أفظعها الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، وحرب كوريا، وحرب فيتنام. وكذلك الأزمات الاقتصادية كتلك التي وقعت عام 1929، وقضية الحقوق المدنية أو نضال السود الأمريكيين والأقليات الأخرى من أجل إلغاء التمييز العنصري، وأخيرا وليس آخرا الأمراض الفتاكة التي لم يتوصل الطب بعد إلى علاج شاف لها كالسرطان ومرض نقص المناعة.
وقد تشكّى أبدايك في مقدمة الكتاب من أن معظم الأدباء الأمريكيين ينتمون إلى الطبقة البرجوازية المترفة التي تعيش في المدن الكبرى، ويأنفون ويترفعون من الخوض في مشكلات الشرائح المحرومة من العمال والفلاحين في قصصهم القصيرة، وأن بعضهم كان يزاول الكتابة في مقاه باريسية فاخرة، كما كان يفعل أرنست همنغواي وسكوت فتزجيرالد وغيرتيتود شتاين وغيرهم فيتناولون حياة الناس البسطاء في أمريكا بصورة شعبوية مصطنعة بعيدة عن الواقع الفعلي. ولهذا لم يصرّ أبدايك على واقعية القصة معيارا للاختيار بقدر ما كان يتوخى في القصة التي ينتقيها أن تثير انتباهه إلى أنها قصة حيّة، جميلة، مقنعة، ومهمة من حيث كشفها عن الطبيعة البشرية.
ومَن يطالع كتاب (أحسن القصص الأمريكية في القرن العشرين) يشعر بوجود تحول في القصة الأمريكية في أواسط القرن، مفاده أنها تخلت عن تصوير أوضاع المجتمع واتجهت إلى تصوير حالات الفكر، وانتقلت من سرد الأحداث والوقائع إلى تحليل المشاعر والعواطف، ولم تعد الحقائق التي تقدمها القصص بينة واضحة بل مغلفة باللغز والرمز، وأخذ القصاصون ينافسون الشعراء في استخدام الأخيلة الشعرية واللغة الموحية المموسقة.
وقد اخترنا من كتاب أبدايك المذكور ومن سلسلة أحسن القصص الأمريكية بعض أبرز الأصوات القصصية وأعلاها في أمريكا في القرن العشرين وترجمناها إلى العربية، محاولين الاقتراب من أسلوب الكاتب وتقنياته قدر ما تسمح به ترجمة النصوص الأدبية.
وأود أن أعرب عن الشكر والتقدير للأديب المغربي الكبير الأستاذ عبد السلام البقّالي وللصديق الأستاذ محمد أبو طالب اللذين تفضلا بقراءة القصص المترجمة وإبداء ملاحظات قيمة عليها.
لقاء
( على الرغم من أن جون شيفر John Cheever لم يدرس في أي جامعة من الجامعات، فإنه علّم فن الكتابة الإبداعية في عدد من الجامعات الأمريكية. ولد جون شيفر في مدينة كوينسي في ولاية ماساشوستس عام 1912 ومرت حياته بسلسلة من المآسي. كان أبوه يملك معملا للأحذية ولكنه فقده في الأزمة الاقتصادية عام 1929. وانقطع جون عن الدراسة وعمره سبعة عشر عاما بعدما فصلته المدرسة بسبب ضبطه وهو يدخن. وخلال الحرب العالمية الثانية سيق إلى الخدمة العسكرية الإجبارية. وعندما كان يدرّس في جامعة بوسطن عام 1974-1975، أصيب بالاكتئاب وأدمن على الشراب ما استدعى إدخاله لمدة شهر في مصحة للعلاج.
وقد انعكست خبراته الأليمة تلك في أعماله الأدبية التي تعكس كذلك رؤيته للطبقة البرجوازية العليا في ضواحي المدن الأمريكية في شرق الولايات المتحدة الأمريكية خاصة مدينة نيويورك، وهي رؤية يتراوح التعبير عنها بين السخرية المحببة والهجاء اللاذع. وقد هدم شيفر، في قصصه، الأسوار التي كانت قائمة بين الأنواع الأدبية وزاوج بينها وبين الأنواع الثقافية، فاستهوت أعماله أصنافا مختلفة من القراء. ألّف جون شيفر أربع روايات جيدة، وعددا كبيرا من القصص القصيرة كان ينشرها في أمهات الدوريات الأمريكية ثم ضمها في سبع مجموعات صدر أولها بعنوان (الطريقة التي يحيا بها بعض الناس) عام 1943 وآخرها (قصص جون شيفر)عام 1978 التي حازت على جائزة البولتزر، وهي أرفع جائزة أدبية أمريكية، عام 1989. وبعد أربع سنوات من ذلك التاريخ توفي بالسرطان في مدينة نيويورك مخلفا وراءه أرملة وثلاثة أولاد.)
كانت آخر مرة رأيت فيها والدي في محطة القطار المركزية الكبرى. كنت سأذهب من منزل جدي في أدرونداك إلى الكوخ الذي استأجرته أمي على شاطئ البحر، فكتبتُ إلى والدي بأنني سأكون في نيويورك لمدة ساعة ونصف، وهي المدة التي سأمضيها في المحطة في انتظار تبديل القطار، وسألته ما إذا كان بالإمكان أن نتناول طعام الغداء معا في تلك الفترة. فكتبتْ إليّ كاتبته قائلة إنه سيقابلني في مكتب الإرشادات في المحطة عند الزوال.
وفي الساعة الثانية عشرة بالضبط رأيته قادما في الزحام. كان غريبا عليّ ـ فقد طلقته أمي قبل ثلاث سنوات، ولم ألتقِ به منذ ذلك الحين ـ ولكن حالما رأيته شعرت بأنه والدي، دمي ولحمي، مستقبلي ومصيري. وأحسست بأنني عندما أكبر سأكون شبيها به، وعليّ أن أسير في حياتي على خطاه. لقد كان رجلا فارع الطول وسيم الوجه، وكنت سعيدا جدا برؤيته مرة أخرى. ربتَ على كتفي وصافحني قائلا:
" أهلا، شارلي! أهلا، يا فتى! أود أن أصطحبك إلى ناديي، ولكنه في منطقة الستين، ولما كان عليك أن تستقل قطارا مبكرا، أظن أنه من الأفضل أن نأكل شيئا في مكان قريب من هنا."
وطوقني بذراعه، فاستنشقت رائحة والدي بنفس الطريقة التي تشم بها أمي وردة من الورود. وكانت رائحته مزيجا من الويسكي، ورغوة حلاقة الذقن، ودهان تلميع الحذاء، والصوف، ورائحة الرجل الناضج. وتمنيت لو رآنا أحد ما ونحن معا. وتمنيت أن تُلتقط صورة لنا، فقد أردت توثيقا من نوع ما للقائنا ذاك.
خرجنا من المحطة واتجهنا إلى شارع فرعي ودخلنا مطعما هناك. كان الوقت ما زال مبكرا، وكان المحل فارغا، والساقي يتخاصم مع عامل من عمال تسليم البضائع، ووقف بجوار باب المطبخ نادل عجوز يرتدي سترة حمراء. جلسنا ونادى والدي النادل بصوت عال صائحا:
ـ" يا ولد! يا نادل! أنت يا مَن هناك!" وبدا صخبه في المطعم الخالي لا محل له. وصرخ قائلا: " هل بإمكاننا أن نحظى بالخدمة هنا؟!" ـ طق طق ـ وصفّق بيديه، فجلب ذلك انتباه النادل إليه، فجرجر رجليه صوب طاولتنا، وسأل:
ـ" هل كنت تصفّق بيديك لي؟"
فقال والدي: "اهدأ، اهدأ، أيها النادل! إذا لم يكن كثيرا أن نطلب منك ـ إذا لم يكن ما سنطلبه يتعدى حدود الواجب، فنحن نرغب في كأسين من مشروب (بيفيتر جبسون)."
فقال النادل: " لا أحب أن يُنادى عليّ بالتصفيق."
فقال والدي:" كان يجب علي أن أجلب معي صفارتي. فلدي صفارة يسمعها النُدُل الكبار السن. والآن، اخرج أوراقك وقلمك الصغير. وحاول أن تدّون ما أقوله لك بصورة صحيحة: مشروبين من نوع (بيفيتر جبسون). أعد بعدي: بيفيتر جبسون."
فقال النادل بهدوء: " أعتقد أنه من الأفضل أن تذهب إلى مكان آخر."
قال والدي: " هذا من أروع الاقتراحات التي سمعتها في حياتي. انهض، يا شارلي، ولنخرج من هنا."
وتبعتُ والدي خارجَين من ذلك المطعم، ودخلنا مطعما آخر. ولم يكن والدي صاخبا هذه المرة. وجاءنا المشروبان. وسألني والدي عن نتائج موسم لعبة البيسبول. ثم ضرب حافة كأسه بسكين وأخذ يصرخ مرة أخرى:
ـ " يا ولد، يا نادل، يا أنتَ، هل تسمح لنا بإزعاجك بطلب كأسين آخرين من نفس المشروب."
فسأله النادل: " وكم عمر الفتى؟"
فقال والدي: " هذا ليس من شأنك، اللعنة."
قال النادل: " آسف، يا سيدي، ولكنني لن آتي بمشروب ثانيا للفتى."
قال والدي: " حسنا، لدي خبر لك. لدي خبر شائق جدا لك، وهو أن هذا المطعم ليس المطعم الوحيد في نيويورك، فقد فتحوا مطعما آخر عند زاوية الشارع. انهض، يا شارلي."
وأدّى الفاتورة، وتبعته خارجَين من ذلك المطعم إلى مطعم آخر. وهنا كان النُدُل يلبسون سترات أرجوانية مثل سترات الصيد، وعُلقت على الحيطان كثير من معدات ركوب الخيل. وجلسنا، ثم راح والدي يصرخ مرة أخرى:
ـ " يا سيد كلاب الصيد. واو واو، وما إلى ذلك. نريد شيئا قليلا على شكل فنجان الرِكاب، أي كأسين من (ببسون بيفيتر)."
فسأله النادل مبتسما: " اثنين من (ببسون بيفيتر)؟"
فقال والدي غاضبا: " تعرف تماما ما أريد. أريد كأسين من (بيفيتر جبسون)، واجلبهما بسرعة. لقد تغيرت الأمور في إنجلترا القديمة الجميلة، هكذا أخبرني صديقي الدوق. فلنر ما تنتجه إنجلترا على شكل كوكتيل."
فقال النادل: " هذه ليست إنجلترا."
قال والدي: " لا تجادلني. فقط افعل ما أُمرتَ به."
قال النادل: " ظننتُ أنك تود أن تعرف أين أنت."
قال والدي: " إذا كان هنالك شيء وحيد لا أستطيع أن أطيقه فهو الخادم الوقح. انهض، يا شارلي."
وكان المطعم الرابع الذي ذهبنا إليه إيطاليا. فأخذ والدي يقول بالإيطالية:
ـ " أيها النادل الطيب، هاتِ لنا من فضلك كأسين من الكوكتيل الأمريكي القوي، القوي مع كثير من الجِن وقليل من النبيذ الأبيض."
فقال النادل: " أنا لا أفهم الإيطالية."
فردّ والدي قائلا : " آه، دعك من هذا! أنت تفهم الإيطالية، وأنت تعرف ذلك جيدا." ثم أضاف بالإيطالية " اثنين من الكوكتيل الأمريكي، في الحال."
وغادرنا النادل وذهب إلى رئيسه الذي جاء إلى طاولتنا وقال:
ـ " آسف، يا سيدي، ولكن هذه الطاولة محجوزة."
قال والدي: " حسنا، خذنا إلى طاولة أخرى."
فأجاب رئيس النُدُل: " جميع الطاولات محجوزة."
قال والدي: "فهمت، إنك لا ترغب في استضافتنا، أليس كذلك؟ حسنا، اذهب إلى الجحيم،" وأضاف بالإيطالية " إلى الجحيم" ، " هيا بنا، يا شارلي!"
قلتُ: " ينبغي عليّ أن ألحق بقطاري."
فقال والدي: " آسف، ياولدي، آسف جدا."
وطوقني بذراعه وضمني إليه وقال : " سأمشي معك إلى المحطة. لو كان فقط لدينا فسحة من الوقت لأخذتك إلى ناديي."
قلت: " لا بأس، يا بابا!"
قال: " سأشتري لك جريدة. سأشتري لك جريدة تقرؤها في القطار."
وذهب إلى كشك الجرائد وقال: " أيها السيد اللطيف! هل تسمح أريحيتك بإكرامي بإحدى جرائدك المسائية اللعينة التافهة ذات العشرة سنتات؟ هل أبالغ كثيرا إذا طلبت منك أن تبيعني إحدى جرائدك الصفراء المقززة؟"
قلت: " يجب عليّ أن أذهب، يا بابا، فقد تأخرت."
فقال: " الآن انتظر لحظة فقط، يا ولدي! انتظر لحظة فقط، أريد أن أسخر من هذا الشخص."
قلت: " مع السلامة، يا بابا!"
ونزلت السلّم وركبت قطاري، وكانت تلك آخر مرة رأيت فيها والدي.